مصطلح "الصهيونية".. نحو صياغة تعريف بديل
الطيب بوعزة
- الصهيونية كفكر مخادع
- ما هي الصهيونية؟
- العودة المحرمة
- جدلية الإجلاء والتوطين
وعيا بنقائص الدلالات المتداولة لمفهوم الصهيونية ثمة مساهمات فكرية عربية استهدفت تصحيح دلالة هذا المفهوم المراوغ، من أشهرها محاولة المفكر عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة، حيث قدم –رحمه الله - تحديدا سماه "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" التي خلاصتها أن:
أ- اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع يجب نقله خارج أوروبا ليتحول إلى شعب عضوي نافع.
ب- ينقل هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوروبا (استقر الرأي، في نهاية الأمر على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجية للحضارة الغربية وبسبب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة) ليوطن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم على الأقل.
ج- يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره.
الصهيونية كفكر مخادع
"
بمراجعة الخطاب الفكري الصهيوني نلاحظ أن كل اتجاه صهيوني يتبنى أسلوبا معينا ليصل إلى الهدف ذاته، وهو أن الشعب اليهودي "شعب عضوي موحد" يعيش في شتات المنفى، وينبغي تجميعه في أرض يؤسس عليها وطنه القومي
"
لكن هذه الصيغة لم تكن الحركة الصهيونية اليهودية قادرة على أن تفصح عنها، لأنها بذلك لم تكن لتنجح في استجاشة الشعور اليهودي وتحريكه، لذا كان لابد للقادة الصهاينة اليهود من إعادة صبغ هذه الصيغة، وتحويلها إلى خطاب قادر على خداع الفئات اليهودية المستهدفة.
وهكذا أصبحت الصيغة مهودة ومغلفة "بديباجات ومسوغات يهودية جعلت بإمكان المادة البشرية المستهدفة استبطانها.. وقد طور هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي فتح الأبواب المغلقة أمام كل الديباجات اليهودية المتناقضة التي غطت، بسبب كثافتها، على الصيغة الأساسية الشاملة وأخفت إطارها المادي النفعي حتى حلت، بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، بل بالنسبة لمعظم قطاعات العالم الغربي، محل الصيغة الأساسية الشاملة.
فتحول اليهود إلى كيان مقدس له هدف وغاية ووسيلة ورسالة.. وتذهب الصيغة المُهودة إلى أن العالم هو "المنفى" وأن اليهود يشكلون "شعباً عضوياً واحداً" لابد أن يُنقَل من المنفى (فهو شعب عضوي منبوذ) إلى فلسطين "أرض الميعاد".
وبمراجعة الخطاب الفكري الصهيوني نلاحظ أن كل اتجاه صهيوني يتبنى أسلوبا معينا ليصل إلى الهدف ذاته، وهو أن الشعب اليهودي "شعب عضوي موحد" يعيش في شتات المنفى، وينبغي تجميعه في أرض يؤسس عليها وطنه القومي. وهذا الهدف كان مقصدا إستراتيجيا في السياسة الأوروبية، وإن تعددت الدوافع إليه.
لكن هذا التهجير لليهود من داخل أوروبا إلى خارجها احتاج إلى آليات وديباجات ليتم بنجاح. وقد كانت آليات الانتقال والتهجير: هي "القانون الدولي العام" متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية) أو "تنفيذاً للوعد الإلهي والميثاق مع الإله" (في الصياغة الدينية) أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية التصحيحية). كما أن النتيجة النهائية واحدة وهي تحويل اليهود إلى مستوطنين صهاينة وطرد الفلسطينيين من وطنهم وتحويلهم إلى مهاجرين".
وهكذا نلاحظ أن عملية نقل اليهود إلى خارج أوروبا تمت بتوظيف مختلف الوسائل، بل أدركت الحركة الصهيونية ضرورة الاستفادة حتى من الذين لا تمكنهم الهجرة إلى فلسطين.. وفي هذا السياق كان لابد من أجل فهم الحركة الصهيونية من التمييز -مع المسيري وغيره من الباحثين- بين "صهيونية استيطانية" انتقلت إلى الاستيطان في فلسطين، و"صهيونية توطينية" وتتجسد في صهاينة اختاروا البقاء في بلدانهم الأصلية، ولكنهم يدعمون عملية الاستيطان، أي يوطنون غيرهم.
وهذه سمة أخرى من سمات العقلية الصهيونية الميكيافيلية التي تحرص على ألا تترك أي إمكانية دون توظيف واختلاق صيغ لاستيعابها.
ما هي الصهيونية؟
لكنني أرى أن "الصيغة الشاملة" التي قدمها المسيري في موسوعته، هي على أهميتها وقيمتها لا تصلح للاستعمال بوصفها تحديدا مفهوميا. وذلك لافتقارها إلى وجازة التعبير التي تشترط في التعريف المفهومي.
فهي كنظرية نراها صيغة جيدة استطاعت أن تستجمع مختلف أبعاد الظاهرة الصهيونية، ولكنها بسبب من الصيغة المنهجية التي قدمت بها تخرج من سياق التحديد المفاهيمي القابل للاستحضار والتداول إلى صيغة تصور أو مقالة موسعة.
"
لابد من تقديم مفهوم بديل للصهيونية تتوافر فيه الدقة والإيجاز، مع الاقتدار على استحضار حقيقة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، تلك الحقيقة التي تحاول الصيغة التعريفية الصهيونية أن تخفيها
"
لذا لابد من تقديم مفهوم بديل للصهيونية تتوافر فيه الدقة والإيجاز، مع الاقتدار على استحضار حقيقة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، تلك الحقيقة التي تحاول الصيغة التعريفية الصهيونية أن تخفيها.
وفي هذا السياق واستثمارا للعديد من الأبحاث نقترح التعريف التالي: "الصهيونية حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية، وقد استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي فانتهت إلى إقامة دولة عنصرية في فلسطين، مرتكزة في إقامتها لدولتها هذه على جدلية الإجلاء والتوطين، إجلاء للفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلا عنهم".
بماذا يمتاز تعريفنا هذا عن غيره من التعاريف المتداولة؟.. لنحلل مقاطعه: عندما نقول إن "الصهيونية حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية"، فتلك إشارة إلى الواقع التاريخي الذي شهدته أوروبا، حيث كان الحافز الأول عند الدول الغربية لنشر ودعم فكرة دعم وطن قومي لليهود خارج أوروبا هو "التخلص من اليهود" أولا وتوظيفهم لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية ثانيا.
وفي هذا السياق نفهم لماذا دعا نابليون الذي كان معاديا لليهود إلى تشكيل وطن خاص بهم في فلسطين. ونفهم كذلك الدافع إلى صياغة وعد بلفور، مع أن بلفور نفسه كان له موقف معاد لليهود!.
ولفهم هذه الازدواجية، أي معاداة اليهود مع العمل على تمكينهم من وطن خاص بهم، نحتاج إلى استحضار الإطار الاجتماعي والتاريخي الأوروبي.
فالغرب عاش خلال عصر الأنوار فترة صعود البرجوازية التي ستنجز تحولا مجتمعيا هائلا نتج عنه شرخ كبير في الإطار الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي، حيث نجح التحول الاقتصادي والثقافي في أوروبا الغربية وفشل في أوروبا الشرقية، الأمر الذي دفع بجماعات يهودية كبيرة إلى الهجرة من شرق أوروبا إلى غربها.
ولم تتحمل أوروبا الغربية هذا الكم الديموغرافي اليهودي الوافد فكان لابد من العمل على تهجيره إلى الخارج وتوظيفه، انسجاما مع التقليد الاستعماري الذي اشتغلت به أوروبا في استيطان أميركا وغيرها من المستعمرات، وهو تصدير الجماعات والفئات غير المرغوب فيها، ولم تكن فلسطين هي المطلب الأول بل أي بقعة من الأرض، لكن مع ضعف العالم الإسلامي، ومع التخطيط لتجزئته واستعماره، ولمنع صعود قوة عربية أو إسلامية موحدة، ونظرا لقيمة فلسطين الإستراتيجية وقيمتها الرمزية للفكر الديني اليهودي، ظهرت داخل الفكر الاستعماري الإنجليزي فكرة توطين اليهود في فلسطين تحديدا لإنشاء دولة تكون عبارة عن حاجز بشري ومادي يقطع جسد العالمين العربي والإسلامي في موقع مفصلي إستراتيجي يمنع توحده وتضامَّ أجزائه.
أما قولنا "إنها حركة استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي" فتلك إشارة إلى أمرين غفل عنهما كثير من التعاريف المتداولة. حيث تذهب هذه التعاريف إلى أن الصهيونية أنشأها الغرب في القرن التاسع عشر. وهو مذهب خاطئ في تفسير نشأة الصهيونية، لأننا نعتقد أنه لابد من التمييز في نشأتها بين ثلاثة مستويات: الصهيونية كفكرة، والصهيونية كحركة، والصهيونية كدولة.
العودة المحرمة
إن الصهيونية كحركة هي بالفعل نتاج سياسي حدث في القرن 19. بيد أن الصهيونية كفكرة موجودة في التراث الثقافي اليهودي، كحنين إلى العودة إلى فلسطين ظهر منذ السبي البابلي، وهو ما تعكسه علامات ورموز ومحددات ثقافية كثيرة داخل التراث الديني اليهودي، ومن بينها المزمور 137, غير أن هذا الحنين كان مجرد فكرة انتظارية مشروطة بنزول "المسيا" (مسيح اليهود)، حيث نجد في الفكر الديني اليهودي تحريما شديدا لهذه العودة، بل تعتبر عودة اليهود هرطقة وتعجيلا بالنهاية (بالعبرية "دحيكات هاكتس").
لذا لم يكن ممكنا للفكرة أن تتحول إلى "حركة" وإستراتيجية عملية إلا بعد حدوث تحولات فكرية داخل هذا التراث الثقافي الديني اليهودي، وهي التحولات التي تمثلها إسهامات مفكرين وحاخامات الصهيونية أمثال القلعي وكاليشر.. الذين قاموا بتحريف فكري تجاوزوا به التحريم الديني الذي كان يحرم العودة الجماعية لليهود إلى فلسطين، حيث يشرطها بنزول المسيح (المسيا)، الذي نظر إليه في التراث الديني اليهودي بوصفه الإذن الإلهي بانتقال اليهود جماعيا إلى فلسطين.
"
القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده
"
فقام هؤلاء الحاخامات بنقد هذه العقلية الانتظارية والدعوة إلى ما يمكن أن نسميه استنزال المسيح، بمعنى أن عودة اليهود الجماعية إلى فلسطين ستضطر المسيح إلى النزول!!.
وإن القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده. حيث إن هذه التعاريف تعجز عن الإجابة على أسئلة عديدة من قبيل: لماذا بالضبط تم اختيار اليهود؟ ولماذا فلسطين؟ وهما سؤالان لا يجدان إجابتيهما إلا باستحضار التراث الثقافي والديني اليهودي.
لكن قولنا هذا لا يعني أن الصهيونية نتاج يهودي محض. بل إننا بإشارتنا إلى الدعم الأوروبي، وإشارتنا السابقة إلى كون المشكلة اليهودية مشكلة نشأت داخل المجال الأوروبي تحديدا، نؤكد أن دور العامل الأوروبي سواء كتحول مجتمعي من الإقطاع إلى الرأسمالية أو كإرادة سياسية استعمارية بتوظيف الجماعات غير المرغوب فيها كأداة للاستخدام الاستعماري، هو دور أساس في تشكيل الصهيونية كحركة، واستوائها كدولة استيطانية.
جدلية الإجلاء والتوطين
وعندما نقول في التعريف إن الدولة الصهيونية المقامة في فلسطين "دولة عنصرية" وإنها "ارتكزت في قيامها على جدلية الإجلاء والتوطين"، فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعى الحركة الصهيونية إلى إخفائها:
أولها: الطابع العنصري والإرهابي للدولة اليهودية. وثانيها: أنها لم تأت إلى "أرض بلا شعب"، بل جاءت إلى أرض لها أصحابها، ولذا كانت منهجيتها في الاستيطان تقوم على جدلية الإجلاء والتوطين: إجلاء الفلسطينيين ووضع اليهود موضعهم، وهو الإجلاء الذي استخدمت فيه أساليب إرهابية متوحشة بدءا بالحرب وانتهاء بالمذابح ضد المدنيين.
وهكذا يمكن أن نقول إن هذا التعريف المقترح يوفر إمكانية لفهم الظاهرة الصهيونية على حقيقتها، ويستحضر مختلف أبعادها، سواء الأبعاد الثقافية أو التاريخية أو السياسية، الأمر الذي يجعل منه تعريفا دقيقا يفوق غيره من التعاريف المتداولة.
المصدر: الجزيرة
الطيب بوعزة
- الصهيونية كفكر مخادع
- ما هي الصهيونية؟
- العودة المحرمة
- جدلية الإجلاء والتوطين
وعيا بنقائص الدلالات المتداولة لمفهوم الصهيونية ثمة مساهمات فكرية عربية استهدفت تصحيح دلالة هذا المفهوم المراوغ، من أشهرها محاولة المفكر عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة، حيث قدم –رحمه الله - تحديدا سماه "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" التي خلاصتها أن:
أ- اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع يجب نقله خارج أوروبا ليتحول إلى شعب عضوي نافع.
ب- ينقل هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوروبا (استقر الرأي، في نهاية الأمر على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجية للحضارة الغربية وبسبب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة) ليوطن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم على الأقل.
ج- يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره.
الصهيونية كفكر مخادع
"
بمراجعة الخطاب الفكري الصهيوني نلاحظ أن كل اتجاه صهيوني يتبنى أسلوبا معينا ليصل إلى الهدف ذاته، وهو أن الشعب اليهودي "شعب عضوي موحد" يعيش في شتات المنفى، وينبغي تجميعه في أرض يؤسس عليها وطنه القومي
"
لكن هذه الصيغة لم تكن الحركة الصهيونية اليهودية قادرة على أن تفصح عنها، لأنها بذلك لم تكن لتنجح في استجاشة الشعور اليهودي وتحريكه، لذا كان لابد للقادة الصهاينة اليهود من إعادة صبغ هذه الصيغة، وتحويلها إلى خطاب قادر على خداع الفئات اليهودية المستهدفة.
وهكذا أصبحت الصيغة مهودة ومغلفة "بديباجات ومسوغات يهودية جعلت بإمكان المادة البشرية المستهدفة استبطانها.. وقد طور هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي فتح الأبواب المغلقة أمام كل الديباجات اليهودية المتناقضة التي غطت، بسبب كثافتها، على الصيغة الأساسية الشاملة وأخفت إطارها المادي النفعي حتى حلت، بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، بل بالنسبة لمعظم قطاعات العالم الغربي، محل الصيغة الأساسية الشاملة.
فتحول اليهود إلى كيان مقدس له هدف وغاية ووسيلة ورسالة.. وتذهب الصيغة المُهودة إلى أن العالم هو "المنفى" وأن اليهود يشكلون "شعباً عضوياً واحداً" لابد أن يُنقَل من المنفى (فهو شعب عضوي منبوذ) إلى فلسطين "أرض الميعاد".
وبمراجعة الخطاب الفكري الصهيوني نلاحظ أن كل اتجاه صهيوني يتبنى أسلوبا معينا ليصل إلى الهدف ذاته، وهو أن الشعب اليهودي "شعب عضوي موحد" يعيش في شتات المنفى، وينبغي تجميعه في أرض يؤسس عليها وطنه القومي. وهذا الهدف كان مقصدا إستراتيجيا في السياسة الأوروبية، وإن تعددت الدوافع إليه.
لكن هذا التهجير لليهود من داخل أوروبا إلى خارجها احتاج إلى آليات وديباجات ليتم بنجاح. وقد كانت آليات الانتقال والتهجير: هي "القانون الدولي العام" متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية) أو "تنفيذاً للوعد الإلهي والميثاق مع الإله" (في الصياغة الدينية) أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية التصحيحية). كما أن النتيجة النهائية واحدة وهي تحويل اليهود إلى مستوطنين صهاينة وطرد الفلسطينيين من وطنهم وتحويلهم إلى مهاجرين".
وهكذا نلاحظ أن عملية نقل اليهود إلى خارج أوروبا تمت بتوظيف مختلف الوسائل، بل أدركت الحركة الصهيونية ضرورة الاستفادة حتى من الذين لا تمكنهم الهجرة إلى فلسطين.. وفي هذا السياق كان لابد من أجل فهم الحركة الصهيونية من التمييز -مع المسيري وغيره من الباحثين- بين "صهيونية استيطانية" انتقلت إلى الاستيطان في فلسطين، و"صهيونية توطينية" وتتجسد في صهاينة اختاروا البقاء في بلدانهم الأصلية، ولكنهم يدعمون عملية الاستيطان، أي يوطنون غيرهم.
وهذه سمة أخرى من سمات العقلية الصهيونية الميكيافيلية التي تحرص على ألا تترك أي إمكانية دون توظيف واختلاق صيغ لاستيعابها.
ما هي الصهيونية؟
لكنني أرى أن "الصيغة الشاملة" التي قدمها المسيري في موسوعته، هي على أهميتها وقيمتها لا تصلح للاستعمال بوصفها تحديدا مفهوميا. وذلك لافتقارها إلى وجازة التعبير التي تشترط في التعريف المفهومي.
فهي كنظرية نراها صيغة جيدة استطاعت أن تستجمع مختلف أبعاد الظاهرة الصهيونية، ولكنها بسبب من الصيغة المنهجية التي قدمت بها تخرج من سياق التحديد المفاهيمي القابل للاستحضار والتداول إلى صيغة تصور أو مقالة موسعة.
"
لابد من تقديم مفهوم بديل للصهيونية تتوافر فيه الدقة والإيجاز، مع الاقتدار على استحضار حقيقة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، تلك الحقيقة التي تحاول الصيغة التعريفية الصهيونية أن تخفيها
"
لذا لابد من تقديم مفهوم بديل للصهيونية تتوافر فيه الدقة والإيجاز، مع الاقتدار على استحضار حقيقة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، تلك الحقيقة التي تحاول الصيغة التعريفية الصهيونية أن تخفيها.
وفي هذا السياق واستثمارا للعديد من الأبحاث نقترح التعريف التالي: "الصهيونية حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية، وقد استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي فانتهت إلى إقامة دولة عنصرية في فلسطين، مرتكزة في إقامتها لدولتها هذه على جدلية الإجلاء والتوطين، إجلاء للفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلا عنهم".
بماذا يمتاز تعريفنا هذا عن غيره من التعاريف المتداولة؟.. لنحلل مقاطعه: عندما نقول إن "الصهيونية حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية"، فتلك إشارة إلى الواقع التاريخي الذي شهدته أوروبا، حيث كان الحافز الأول عند الدول الغربية لنشر ودعم فكرة دعم وطن قومي لليهود خارج أوروبا هو "التخلص من اليهود" أولا وتوظيفهم لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية ثانيا.
وفي هذا السياق نفهم لماذا دعا نابليون الذي كان معاديا لليهود إلى تشكيل وطن خاص بهم في فلسطين. ونفهم كذلك الدافع إلى صياغة وعد بلفور، مع أن بلفور نفسه كان له موقف معاد لليهود!.
ولفهم هذه الازدواجية، أي معاداة اليهود مع العمل على تمكينهم من وطن خاص بهم، نحتاج إلى استحضار الإطار الاجتماعي والتاريخي الأوروبي.
فالغرب عاش خلال عصر الأنوار فترة صعود البرجوازية التي ستنجز تحولا مجتمعيا هائلا نتج عنه شرخ كبير في الإطار الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي، حيث نجح التحول الاقتصادي والثقافي في أوروبا الغربية وفشل في أوروبا الشرقية، الأمر الذي دفع بجماعات يهودية كبيرة إلى الهجرة من شرق أوروبا إلى غربها.
ولم تتحمل أوروبا الغربية هذا الكم الديموغرافي اليهودي الوافد فكان لابد من العمل على تهجيره إلى الخارج وتوظيفه، انسجاما مع التقليد الاستعماري الذي اشتغلت به أوروبا في استيطان أميركا وغيرها من المستعمرات، وهو تصدير الجماعات والفئات غير المرغوب فيها، ولم تكن فلسطين هي المطلب الأول بل أي بقعة من الأرض، لكن مع ضعف العالم الإسلامي، ومع التخطيط لتجزئته واستعماره، ولمنع صعود قوة عربية أو إسلامية موحدة، ونظرا لقيمة فلسطين الإستراتيجية وقيمتها الرمزية للفكر الديني اليهودي، ظهرت داخل الفكر الاستعماري الإنجليزي فكرة توطين اليهود في فلسطين تحديدا لإنشاء دولة تكون عبارة عن حاجز بشري ومادي يقطع جسد العالمين العربي والإسلامي في موقع مفصلي إستراتيجي يمنع توحده وتضامَّ أجزائه.
أما قولنا "إنها حركة استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي" فتلك إشارة إلى أمرين غفل عنهما كثير من التعاريف المتداولة. حيث تذهب هذه التعاريف إلى أن الصهيونية أنشأها الغرب في القرن التاسع عشر. وهو مذهب خاطئ في تفسير نشأة الصهيونية، لأننا نعتقد أنه لابد من التمييز في نشأتها بين ثلاثة مستويات: الصهيونية كفكرة، والصهيونية كحركة، والصهيونية كدولة.
العودة المحرمة
إن الصهيونية كحركة هي بالفعل نتاج سياسي حدث في القرن 19. بيد أن الصهيونية كفكرة موجودة في التراث الثقافي اليهودي، كحنين إلى العودة إلى فلسطين ظهر منذ السبي البابلي، وهو ما تعكسه علامات ورموز ومحددات ثقافية كثيرة داخل التراث الديني اليهودي، ومن بينها المزمور 137, غير أن هذا الحنين كان مجرد فكرة انتظارية مشروطة بنزول "المسيا" (مسيح اليهود)، حيث نجد في الفكر الديني اليهودي تحريما شديدا لهذه العودة، بل تعتبر عودة اليهود هرطقة وتعجيلا بالنهاية (بالعبرية "دحيكات هاكتس").
لذا لم يكن ممكنا للفكرة أن تتحول إلى "حركة" وإستراتيجية عملية إلا بعد حدوث تحولات فكرية داخل هذا التراث الثقافي الديني اليهودي، وهي التحولات التي تمثلها إسهامات مفكرين وحاخامات الصهيونية أمثال القلعي وكاليشر.. الذين قاموا بتحريف فكري تجاوزوا به التحريم الديني الذي كان يحرم العودة الجماعية لليهود إلى فلسطين، حيث يشرطها بنزول المسيح (المسيا)، الذي نظر إليه في التراث الديني اليهودي بوصفه الإذن الإلهي بانتقال اليهود جماعيا إلى فلسطين.
"
القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده
"
فقام هؤلاء الحاخامات بنقد هذه العقلية الانتظارية والدعوة إلى ما يمكن أن نسميه استنزال المسيح، بمعنى أن عودة اليهود الجماعية إلى فلسطين ستضطر المسيح إلى النزول!!.
وإن القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده. حيث إن هذه التعاريف تعجز عن الإجابة على أسئلة عديدة من قبيل: لماذا بالضبط تم اختيار اليهود؟ ولماذا فلسطين؟ وهما سؤالان لا يجدان إجابتيهما إلا باستحضار التراث الثقافي والديني اليهودي.
لكن قولنا هذا لا يعني أن الصهيونية نتاج يهودي محض. بل إننا بإشارتنا إلى الدعم الأوروبي، وإشارتنا السابقة إلى كون المشكلة اليهودية مشكلة نشأت داخل المجال الأوروبي تحديدا، نؤكد أن دور العامل الأوروبي سواء كتحول مجتمعي من الإقطاع إلى الرأسمالية أو كإرادة سياسية استعمارية بتوظيف الجماعات غير المرغوب فيها كأداة للاستخدام الاستعماري، هو دور أساس في تشكيل الصهيونية كحركة، واستوائها كدولة استيطانية.
جدلية الإجلاء والتوطين
وعندما نقول في التعريف إن الدولة الصهيونية المقامة في فلسطين "دولة عنصرية" وإنها "ارتكزت في قيامها على جدلية الإجلاء والتوطين"، فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعى الحركة الصهيونية إلى إخفائها:
أولها: الطابع العنصري والإرهابي للدولة اليهودية. وثانيها: أنها لم تأت إلى "أرض بلا شعب"، بل جاءت إلى أرض لها أصحابها، ولذا كانت منهجيتها في الاستيطان تقوم على جدلية الإجلاء والتوطين: إجلاء الفلسطينيين ووضع اليهود موضعهم، وهو الإجلاء الذي استخدمت فيه أساليب إرهابية متوحشة بدءا بالحرب وانتهاء بالمذابح ضد المدنيين.
وهكذا يمكن أن نقول إن هذا التعريف المقترح يوفر إمكانية لفهم الظاهرة الصهيونية على حقيقتها، ويستحضر مختلف أبعادها، سواء الأبعاد الثقافية أو التاريخية أو السياسية، الأمر الذي يجعل منه تعريفا دقيقا يفوق غيره من التعاريف المتداولة.
المصدر: الجزيرة